18-08-2020, 08:22 AM
|
#1 |
مسافر خبير
تاريخ التسجيل : Jun 2018 رقم العضوية : 19996 الجنس : ذكر المشاركات : 2,702 | قصة تلميذ يتيم يرويها معلم (قصة عراقية)
كتب أحد المعلمين العراقيين على وسائل التواصل الاجتماعي
القصة التالية، التي حصلت معه قبل 15 عاماً:
كانت رابع سنة لي كمعلم، وثالث سنة لي كمربي للصف الأول الابتدائي.
كانت الحصة الثانية من يوم الاثنين وكانت في مادة القراءة، حيث بدأ الطلاب
يعملون في حل تدريب كتابي. انتهى البعض من الحل،
وبدأت أتجول بينهم أصوب لمن انتهى منهم.
كنت وما زلت صاحب مسبحة لا تفارق جيبي ولا يدي منذ مراهقتي.
وبينما كنت منحنياً للتصويب لأحد الطلاب، إذا بالمسبحة يظهر جزءٌ منها
من فتحة جيبي. وفجأة أحسست بمن يعبث بها ويلمسها بإصبعه الصغير.
لم ألتفت والتزمت وضعيتي، وأطلت التدقيق في تصويب عمل الطالب،
ثم نظرت نظرة من تحت يدي. فماذا شاهدت؟!
كان أحد الطلاب يداعب المسبحة الخارجة من فتحة جيبي،
ويتبسم بهيام غريب! اعتدلت، وأخرجت المسبحة بهدوء ووضعتها بحجر الطالب
دون أن ألتفت إليه.
اتجهت للسبورة وعدت للشرح، وطلبت من الصغار تجهيز أنفسهم للفسحة.
لمحت الصغير. وإذا به قد وضع المسبحة فوق الطاولة بين يديه يدعكها بقوة
ثم يشمها ويمعن النظر إليها بعينيه البريئتين الجميلتين. تعجبت من تصرفه،
ولكن لم أرغب أن يراني أراقبه.
قرع جرس نهاية الحصة الثانية، وبدأ الأطفال يتوافدون للخارج،
وطفلي صاحب المسبحة باق في مكانه، ويفعل ما كان قد فعله!
لم أنظر إليه. تشاغلت بترتيب الصف والسبورة! تقدم الطفل إلي وقال:
بابا. ثم توقف وقال: أستاذ! هذه سبحتك! فمددت يدي لأخذها وسط شكري له.
أمسك الطفل يدي وقبلها، وقال: أنا أحبك يا أستاذ!
نزلت له جاثياً وقبلت رأسه، وقلت له: وأنا أحبك. وحضنته! أحسست بقلبه يخفق!
خرج من الصف، وخرجت، واستفهامات كثيرة في رأسي! أن يقول لك طفل: أحبك،
فهذا شرف كبير لا زيف فيه، يعادل عندي مديح المدير ودرجة الأداء الوظيفي بامتياز،
وتقدير المشرف التربوي وكيْله الثناء العطر، وتكريم مدير التعليم بالتميز وتتويج الوزير
بالإتقان. مشيت في داخل أحد أروقة المدرسة فرحاً، يخالط فرحي الذهول!
التقيت وكيل المدرسة في وجهي، وبعفويه سألته: أين ملفات طلاب الصف الأول الابتدائي؟
فأشار مشكوراً إليها في مكتبه. استأذنته وبدأت أفتش عن ملف الطالب!
فقال الوكيل: ماذا تريد، بالضبط؟ فقلت: لا أعرف! فابتسم وغادر.
صلت لملف الطفل، وفتحته! وصلت دفتر العائلة! ماذا أرى ؟
لم تكن صورة الأب موجودة، وختم بختم مكانها وكُتب (متوفي)! إنه السر إذن.
تبيّنت لاحقاً أن والد الطفل توفي قبل دخوله المدرسة بشهر واحد،
إثر حادث مروري– رحمه الله. وأن هذا الطفل اليتيم ابنه الأول! كان الطفل
يتمنى أن يشاركه والده تجربته المدرسية، فغيبته أقدار الله! وبدون نظريات
علم النفس، أرادني الطفل ( أباً بديلاً) أعوضه حنو الأب الذي افتقده!
غيّر ذلك الموقف مسار حياتي المهنية وعلاقاتي الإنسانية كلها.
بت أؤمن أن التربية قيمة ورسالة عظيمة.
لاحقاً، بدأت أعزز طفلي الصغير بالملامسة والسلام ومسح الرأس.
في الطابور الصباحي، اعتدت سابقاً أن أتفقد الطلاب واحداً تلو الأخر.
وبعد الموقف، اعتدت أن أقف بقرب هذا الطفل، وأن أتابعه في اليوم الدراسي
كاملاً، أتفقده في جميع المواد.
نجح الطفل للصف الثاني. وأذكر أنه كان يلعب كرة القدم في حصة
التربية الرياضية، فضربه أحد زملائه، فانطلق باكياً، وتعدى معلم
التربية الرياضية الذي كان يحكّم المباراة، ودخل بهو المدرسة ثم غرفة المعلمين،
واتجه نحوي ودموعه تسيل من عينيه. وقال: فلان ضربني!
قلت له: ماله حق. فقال: قم احسب لي ضربة جزاء! فقلت له: تدلّل.
خرجت معه إلى الملعب المدرسي، وأعلنت احتجاجي عند الحكم (معلم التربية الرياضية)،
وهددته بأن أطالب بالحكم الأجنبي في المباراة القادمة. فامتثل جزاه الله خيراً.
وأخذت الصافرة وأعلنت عن ضربة جزاء (بأثر رجعي) لصغيري.
سدد صغيري الكرة، ودوت صافرتي التي سمعها كل من في الحي والمدرسة
معلنة الهدف. وكنت أول من صفق بحرارة.
صغيري الآن، اجتاز المستوى الثالث في كلية اللغة العربية في جامعة بغداد.
لن أنساك يا أحمد فأنت – بعد فضل الله – من ألنت قساوة قلبي،
وعلمتني كيف يجب أن يكون ميدان التربية والتعليم ميداناً لكل ضمير حي.
كل مرة أسرد القصة، تغالبني دموعي. وهذه المرة أرهقتني بحق.
تحياتي لكم …
رد الطالب أحمد
بعد أيام وصل المدرس جواباً غير متوقع من طالبه القديم أحمد.
قرأ الطالب أحمد قصة أستاذه بعد أن دارت في مواقع التواصل الاجتماعي حتى وصلته.
فكتب له الرد التالي:
أستاذي الكريم:
يتناقل الناس رسالتك عبر وسائل التواصل الحديثة. وصلت إليَّ رسالتك – كغيري من الناس –
فقرأتها وأنا أسترجع “فيلم” تلك المرحلة من حياتي.
طفل يُتِم بفقد والده. شبَّ ودرج عند أخواله. لم يعرف قاموسه اللغوي
عبارات كان يرددها أقرانه!
فحينما يتشاكس مع غيره، تنهمر دموعه ويقول: والله سأقول لأمي!
بينما يقول الآخرون: والله سأقول لأبي.
مرت الأيام ووالدتي – جزاها الله خيراً – تقوم بدورين، دور الأب ودور الأم معاً!
في أول يوم دراسيِّ، أمسكت والدتي بيدي وذهبنا إلى المدرسة وهي تهمهم طوال الطريق.
لم أفقه من همهمتها إلا “الذي لا تضيع ودائعه”. ودعتني عند باب المدرسة، ورجعت للبيت.
دخلت المدرسة لأول مرة. وفي تلك السنوات كان الأسبوع التمهيدي
في أول سنوات تطبيقه. كان بجوار كل طفل والده يشجعه، إلا أنا، فقد وقفت وحيداَ
لا أدري ما الله صانع بي.
لكن ما كانت تهمهم به والدتي بدأ مفعوله. سار نحوي رجل وأخذ بيدي.
سأل عن اسمي، فأجبته. سأل عن والدي أين هو؟ قلت ببراءة الطفولة:
ليس عندي أب، إنه متوفي! كتب اسمي على بطاقة وعلقها على صدري.
إنَّ ذلك الرجل هو أنت أستاذي الكريم!
كنتَ تظن أنَّ بداية قصتي معك هي المسبحة. لا والله! إنَّ البداية كانت
من أول لقاء بيننا. الانطباع الأول هو الذي يترسخ بالذهن، سواءً كان
انطباعاً جميلاً أم قبيحاً. وهذا الانطباع يصعب تغييره، مهما حاولنا ترميم ما
حدث في أول لقاء.
أما قصة المسبحة فهي واحدة من حيل الطفولة التي كنت احتال عليك بها،
حينما أشعر بحاجتي إلى جرعة من أبوتك!
سأفصح لك – بعد تلك السنوات – عن بعض سيرتي معك. كنت أتعمد – أحيانًا –
الوقوع في الخطأ في درس المطالعة مع معرفتي الجيدة لها. وكثيراً ما كنت أقوم
من مقعدي وأتجه إليك في مكانك لأسألك عن صحة ما كتبت مع يقيني أنَّ ما كتبه
كان صحيحاً. بل كم من الأيام حطمت سن القلم كي أقوم بإصلاحه بالبراية الكبيره
المثبتة في زاوية مكتبك. صنعت ذلك كله من أجل أنْ أقترب منك، فأشعر بدفء حرارة أبوتك!
ختاماً يا والدي العزيز: درست على أيدي أساتذة كثر من المرحلة الابتدائية،
مروراً بالمرحلتين المتوسطة والثانوية، وأخيراً في المرحلة الجامعية، وصورتك الجميلة
ماثلة دائماً أمام عيني، وكلماتك الأبوية وقود لي لمواصلة مشوار الحياة.
أسأل الله أنْ يرزقك الفردوس الأعلى من الجنة، على وقوفك معي وتشجيعك.
التوقيع: تلميذك بل ابنك |
| |